خطابات غزة- ثقة المقاومة في مواجهة تخبّط الاحتلال

المؤلف: محمُود الرنتيسي10.29.2025
خطابات غزة- ثقة المقاومة في مواجهة تخبّط الاحتلال

لقد عايشنا خلال الأيام القليلة الماضية سلسلة من التصريحات الصادرة عن قادة فلسطينيين وإسرائيليين بشأن الحرب الدائرة في غزة. وبينما برز الجدل العلني بوضوح في خطابات كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، المنتميان إلى حزب "الليكود" ذاته، تجسدت المقاومة الفلسطينية بتناغم راسخ وثبات جلي وإيمان عميق في خطاباتها.

وفي هذا الإطار، جاء خطاب إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، في الذكرى السادسة والسبعين للنكبة الفلسطينية، ليؤكد على الصمود البطولي في الميدان والحضور العالمي للقضية الفلسطينية النبيلة، ووحدة موقف فصائل المقاومة الباسلة حول ما يسمى بـ "اليوم التالي". وبعد يومين من ذلك، ألقى الناطق باسم الجناح العسكري كلمة تؤكد على نفس المعاني السابقة، مضيفًا إليها بُعد الاستعداد العسكري والجهوزية القتالية لخوض معركة استنزاف طويلة الأمد، مما عكس صورة الانسجام الوثيق بين المستويين السياسي والعسكري.

وفي حين اعترض وزير الدفاع الإسرائيلي بصراحة على خطط رئيس وزرائه، معلنًا أنهم غير مستعدين لوجود عسكري مطول في غزة، ومطالبًا بوضع خطة واضحة لما بعد الحرب، ساهم خطاب الناطق باسم كتائب القسام، بما تضمنه من معان سامية، في تعزيز ودعم الموقف السياسي، مما يكشف التباين الشاسع بين خطاب المقاوم الواثق والصامد، وخطاب الاحتلال المتخبط والمضطرب.

وبينما يتنازع غالانت ونتنياهو وسموتريتش وبن غفير علنًا في مشهد يعكس الانقسام والتشتت، حمل خطاب هنية معاني عميقة للوحدة الداخلية داخل الفصيل الواحد، أو مع بقية الفصائل المقاومة الأخرى، حيث أشاد بقائد حماس في غزة، يحيى السنوار، وأثنى أيضًا على جميع فصائل المقاومة في غزة، معتبرًا أنها تسطر أمجادًا لشعب وأمة بأكملها.

وفي الوقت الذي يمثل فيه الخلاف حول اليوم التالي لانتهاء المعركة نقطة الخلاف الأساسية بين قادة الاحتلال، تحدث عنها هنية ضمن عدة محددات واضحة، أولها: الثقة المطلقة في القادة العسكريين وتحدّي المحاولات الرامية إلى إخراج حماس من المشهد السياسي، وكذلك إعلاء مفهوم الوحدة الوطنية في إدارة الوضع في غزة، استنادًا إلى المصالح العليا للشعب الفلسطيني، ووحدة الضفة والقطاع كوحدة لا تتجزأ، والحوار الوطني الفلسطيني الشامل، مستشهدًا بالحوارات المثمرة التي جرت مع حركة فتح في روسيا والصين مؤخرًا، وإلى النقاشات المستفيضة بين حماس من جهة، وكل من حركة الجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكذلك التيار الإصلاحي الديمقراطي، وعدد من الشخصيات الوطنية الفلسطينية.

الثقة في الخطابات

وصفت خبيرة الشؤون الحزبية في دولة الاحتلال، دانا فايس، الخطاب المؤثر الذي ألقاه غالانت بأنه يشير بوضوح إلى أن هناك وزير دفاع لا يثق برئيس حكومته ويعارضه بشدة، ويخشى من أنه يعرض أمن الدولة للخطر الداهم. ويكشف تحليل خطابه أيضًا عن معلومات قيمة، منها:

  • وجود نوايا خفية لدى رئيس الوزراء لاحتلال كامل لقطاع غزة المحاصر.
  • الجيش الإسرائيلي بأكمله لا يستطيع تحقيق ذلك على أرض الواقع.
  • القضاء على حركة حماس أصبح أمرًا مستحيلاً، وهو ما أكده إسماعيل هنية في خطابه الذي كان مليئًا بالثقة والإيمان بأنه لا يمكن القضاء على حماس، وأنها وجدت لتبقى وتستمر.

وبينما اقتصر خطاب قادة الاحتلال على المعركة في غزة فقط، تحدث هنية عن صمود الفلسطينيين في القدس المحتلة في وجه التهويد الممنهج، وفي مناطق الـ 48 متمسكين بهويتهم العربية الأصيلة، ومقاومتهم الباسلة في الضفة الغربية للاستيطان والمستوطنين الغزاة، وتمسك فلسطينيي الشتات بحق العودة المقدس. وهذه الثقة المطلقة التي تتسع للشعب الفلسطيني بأكمله تزيد من الثقة في انتصار المقاومة، والتطلع إلى مزيد من التقدم والقوة في مشروع التحرير الشامل بانخراط هذه الجبهات المتعددة فيه، وهو ما عزّزه أبو عبيدة بالإشادة بالمقاومة المتصاعدة في الضفة الغربية.

وفيما يرتكز خطاب المقاومة الفلسطينية على تطلعات الشعب الفلسطيني العظيم، ولا ينفك عن الإشادة بصموده وصبره الاستثنائيين، ينفصم خطاب الاحتلال عن الواقع المرير، فنتنياهو يضحي بالأسرى من أجل مصالحه الشخصية الضيقة، وهناك مظاهرات شبه يومية ينظمها أهالي الأسرى الإسرائيليين في مدن الاحتلال.

عقلانية ومرونة مقابل جنون وتعنّت

حمل خطاب هنية تأكيدًا قاطعًا على مرونة ومسؤولية المقاومة الفلسطينية، حيث كان تعاطي الحركة الإيجابي مع جهود الوسطاء لوقف العدوان والإبادة الجماعية مؤشرًا هامًا على عقلانيتها وحسها بالمسؤولية، كما أن موافقة الحركة على المقترح الأخير الذي قدّمته مصر وقطر بعلم الإدارة الأميركية، أحرج الاحتلال الإسرائيلي بشكل كبير عندما رفضه جملة وتفصيلاً، وقام باحتلال معبر رفح الحيوي، وشنَّ عدوانًا غاشمًا على مناطق رفح وجباليا والزيتون، رغم التحذيرات الأميركية الواضحة.

وفي السياق ذاته، تحدث أبوعبيدة عن الفرص المنطقية التي قدمتها المقاومة من أجل الإفراج عن الأسرى، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي قام برفضها بتعنّت غير مبرر. وعلى الجانب الآخر، كان دانيال هاغاري الناطق باسم الجيش الإسرائيلي يعلن عن تمكنهم من تخليص جثث عدد من الأسرى، محاولًا تسويق ذلك على أنه إنجاز كبير، على الرغم من أنه على الأغلب تمّ قتل العديد من جنوده في محاولة يائسة للوصول إلى تلك الجثث، التي قُتل أصحابها بقصف صهيوني همجي أيضًا.

ومع تأكيد خطاب المقاومة الفلسطينية على إدراكه لنوايا الاحتلال الإسرائيلي المبيتة باستمرار العدوان الغاشم وانحياز الموقف الأميركي السافر إلى العدو، ومواصلة منحه الغطاء السياسي والدعم العسكري لحرب الإبادة التي يشنّها ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، إلا أنها أعلنت عزمها على مواصلة مساعيها الحميدة لوقف العدوان، بما يضمن وقف إطلاق النار الدائم والشامل، والانسحاب الكامل من القطاع، وإبرام صفقة حقيقية لتبادل الأسرى، وعودة النازحين إلى ديارهم، وإعادة الإعمار ورفع الحصار الجائر، وهو ما يشير بوضوح إلى ثبات حماس على مواقفها وأهدافها النبيلة في جميع مراحل الحرب، مع المحافظة على هوامش المرونة في القضايا التي تسمح بذلك.

خطاب العلاقات

أشارت العديد من التسريبات إلى العصبية الشديدة التي يتسم بها الجانب الإسرائيلي في التعامل مع حلفائه، فنتنياهو انتقد بشدة تحذير الرئيس الأميركي له من تجاوز الخطوط الحمراء في رفح قائلاً بصلف: "إسرائيل ليست ولاية أميركية تابعة". وبالمثل، انتقد زعيم المعارضة يائير لابيد تعامل الحكومة مع جمهورية مصر العربية، فيما يخصّ قضية احتلال معبر رفح، كما تصاعدت التوترات بشكل ملحوظ بين الاحتلال الإسرائيلي ودولة تركيا.

على الجانب الآخر، تدير حركة حماس علاقاتها بتوازن مثالي مع الأطراف الدولية والإقليمية كافة، فقد كانت في الصين وروسيا؛ تلبية لدعوات كريمة للمشاركة في الحوار الوطني الفلسطيني، كما ذكر هنية في خطابه، وهي تحظى إقليميًا باحترام وتقدير الوسطاء في دولة قطر وجمهورية مصر العربية. واحتفى هنية في خطابه المفعم بالأمل بالضربة الإيرانية للاحتلال الإسرائيلي، وأشاد بالمقاومة اللبنانية الشريفة، وثمّن عاليًا القرارات التركية الشجاعة بوقف الحركة التجارية مع الاحتلال، وانضمامها للدعوة المقدمة إلى محكمة لاهاي هي وعدة دول أخرى.

وبالمثل، وجّه أبو عبيدة التحية للمقاومة اللبنانية والعراقية الباسلتين، وبارك عمليات "أنصار الله" في اليمن السعيد، وأشاد بكل المتضامنين مع فلسطين وشعبها الصامد في كل مكان، وفي الولايات المتحدة الأميركية. وهو ما يشير إلى أن شرعية حركة حماس تتخذ منحنى تصاعديًا على الصعيدين الإقليمي والدولي.

خطاب المستقبل

وهكذا تكشف خطابات قادة الاحتلال عن تدهور متسارع في الثقة بين الأوساط القيادية العليا، وتراجع حاد في ثقة الرأي العام بالجيش الإسرائيلي المهزوم، وقدرته المزعومة على حماية الدولة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول وحتى يومنا هذا. كل هذا يجعل المستقبل في إسرائيل قاتمًا ومبهمًا، كما أشار إلى ذلك أكثر من مفكّر وباحث وسياسي بارز، أو كما قال أبو عبيدة: إن متلازمة الفشل الذريع وأكذوبة الضغط العسكري لتحرير الأسرى هي وصفة مؤكدة لذهابهم جميعًا نحو المجهول المحتوم.

أما خطابات المقاومة الفلسطينية فهي واثقة وثابتة ومتوافقة تمامًا مع الواقع الميداني، وذاهبة بخطى واثقة نحو مزيد من الحضور العالمي المرموق. وقد حيّا هنية المظاهرات الطلابية غير المسبوقة في الجامعات الغربية العريقة، مشيرًا إلى أنّ غزة قد أسقطت السردية الصهيونية الكاذبة، وكشفت الحقيقة المرة للاحتلال وطبيعته الدموية الوحشية، ومنحت أفقًا واسعًا أمام إعادة صياغة التاريخ من جديد. وهي إلى ذلك لم تخلُ من المحتوى الإيماني العميق المحمّل ببشريات الانتصار الحتمي على الظلم والعدوان، وهو واحد من أهم مقومات الصمود الأسطوري، وحفز الإرادة الصلبة في هذه المعركة المصيرية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة